وهو مخير في ذلك لأن جميع الروايات الصحيحة التي ذكرت هذا الدعاء قد تحتمل ما قلناه ، والله تعالى أعلم .
فائدة:
هنا موضعان لقول : (اللهمَّ اعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبتكَ ، وَاعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا احْصِي ثَنَاءً عَلَيكَ ، انْتَ كَمَا اثْنَيْتَ عَلَى نَفسِكَ )
الأول : لا خلاف فيه : في السجود .
ودليله حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَسْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ وَقَدَمَاهُ مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) . رواه مسلم وأبو داود – واللفظ له - وغيرهم كثير .
الموضع الثاني : يحتمل موضعين
- في دعاء قنوت الوتر
- بعد السلام من الوتر أو قبل السلام .
والوارد حديثان :
الأول :
حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) .
رواه جمع من اهل السنن والمسانيد كلهم من طريق حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ عن علي رضي الله عنه .
وإليك تبويب الأئمة رحمهم الله :
- أبوداود (بَاب الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ )
- الترمذي (بَابٌ فِي دُعَاءِ الْوِتْرِ )
- النسائي في الكبرى (ما يقول في آخر وتره )
- وفي الصغرى (بَاب الدُّعَاءِ فِي الْوِتْرِ ) وذكر في الباب أيضاً حديث الحسن رضي الله عنه (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ )
- ابن ماجه (بَاب مَا جَاءَ فِي الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ )
- الطبراني في الدعاء : (باب القول في قنوت الوتر)
- ومعه حديث ( اللهم اهدني فيمن هديت )
- ابن أبي شيبة (مَا يَقُولُ الرَّجُلُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ ) وهذا مثل لفظ الحديث
- أما البيهقي رحمه الله فقال
- (باب مَا يَقُولُ بَعْدَ الْوِتْرِ)
- وفي الدعوات قال (باب القول والدعاء عقيب الوتر )
الثاني :
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِّيِّ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ:
بِتُّ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ ، إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ ، وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ ، يَقُولُ : (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، اللَّهُمَّ لاَ أَسْتَطِيعُ ثَنَاءً عَلَيْكَ ، وَلَوْ حَرَصْتُ ، وَلَكِنْ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) .
رواه النسائي في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة وابن السني والطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن خصيفة عنه به .
قال الهيثمي رحمه الله : ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد الله بن عبد القارئ وقد وثقه ابن حبان. اهـ
قال المزي رحمه الله في تهذيب الكمال : روى عن : على بن أبى طالب ( سى ) : مرسل : " بت عند النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فكنت أسمعه إذا فرغ من صلاته و تبوأ مضجعه يقول . . . الحديث " .
روى عنه : يزيد بن عبد الله بن خصيفة ( سى ) .
و قيل عن ابن خصيفة عن عبد الله بن عبد عن على .
و قيل عن ابن خصيفة عن يزيد بن عبد الله الكندى عن إبراهيم بن عبد الله القارى : إن عليا كان يقول .
وقال في التحفة : إبراهيم بن عبد الله بن عبدٍ القاريِّ، عن علي - وقيل : لم يدركه . اهـ
فمن حمل الحديثين على بعضهما كابن القيم والعظيم آبادي رحمهما الله وغيرهما أوردوا احتمال كون الدعاء بعد السلام . بسبب الحديث الثاني إن صحّ.
توسط ابن القيم رحمه الله في الزاد فقال : وفي إحدى الروايات عن النسائي: كان يقولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاته، وتبوَّأَ مضجعه، وفي هذه الرواية: "لاَ أُحْصِي ثنَاءً عَلَيْكَ وَلَوْ حَرَصْتُ" وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال ذلك في السجود، فلعله قاله في الصلاة وبعدها . اهـ
قال الألباني رحمه الله : ومن السنة أن يقول في آخر وتره ( قبل السلام أو بعده ) : ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) . قيام رمضان .
وللسندي احتمال آخر
قال رحمه الله في حاشيته على النسائي :
قَوْله ( كَانَ يَقُول فِي آخِر وِتْره )
يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي آخِر الْقِيَام فَصَارَ هُوَ مِنْ الْقُنُوت كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَام الْمُصَنِّف وَيَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي قُعُود التَّشَهُّد وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ .اهـ
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( يَقُولُ فِي آخِر وِتْره )
: أَيْ بَعْد السَّلَام مِنْهُ كَمَا فِي رِوَايَة قَالَ مَيْرَك : وَفِي إِحْدَى رِوَايَات النَّسَائِيِّ كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاته وَتَبَوَّأَ مَضْجَعه . اهـ
ومما يقوي أنه في الدعاء :
قال الترمذي على حديث الحسن رضي الله عنه (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ ) .
قال العيني : قال الترمذي " وفي الباب عن علي رضي الله تعالى عنه " ولم يرد هذا وإنما أراد والله أعلم ما رواه هو في الدعوات وبقية أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن علي بن أبي طالب ( أن النبي كان يقول في آخر وتره "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك" )
فيكون مراده أن هذا الدعاء يقال في نفس دعاء الوتر .
ووافقه المباركفوري على أن المراد بحديث علي هو هذا .
* ذكرت اللجنة الدائمة هذا الدعاء في دعاء القنوت
* وفي شرح منتهى الإرادات وزاد المستقنع وغيرها من كتب الحنابلة رحمهم الله : ذكروه ضمن ما يدعو به المصلي في القنوت .
* قال الشوكاني رحمه الله : وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ . اهـ
* أما النووي رحمه الله فقال : في المجموع : يستحب أن يقول بعد الوتر ثلاث مرات سبحان الملك القدوس وأن يقول اللهم انى اعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك واعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت علي نفسك ففيهما حديثان صحيحان في سنن أبي داود وغيره . اهـ
وهذا ما يبدو من فعله في الأذكار حيث ذكر هذا الحديث بعد حديث ( سبحان الملك القدوس) الذي يقال بعد السلام .
وكأن النووي تبع ترتيب البيهقي في الكبرى فهو يشبهه .
وهذه الرواية فيها تعيين موضع هذا الدعاء ، وهو ما بوب عليه النسائي في كتابه "عمل اليوم والليلة" ، حيث قال : " باب ما يقول إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه" . اهـ
الذي يظهر أن النسائي بوب تبويبين , فالحديث الأول تبويبه (ما يقول في آخر وتره ) - راجع كلام السندي - والحديث الثاني تبيوبه (باب ما يقول إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه ) , وجعل مورد الحديثين مختلفاً ولكل منهما موضعاً, أما ظاهر تبويب الأئمة فهم جعلوه من الدعاء في الوتر وفي آخره , وهذا ما فهمه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله فيما يظهر .
أما البيهقي والنووي فكما مرّ فقد جعلوه بعد السلام .
وأما ابن القيم والألباني – رحم الله أئمتنا جميعاً – فقد جعلوه على التخيير .
ويبقى للبحث مجال في صحة الحديث الثاني الذي من طريق إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِّيِّ , عَنْ عَلِيِّ .
أما حديث ( سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ) فقد جاء صريحاً أنه بعد السلام
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ فِي الْوِتْرِ قَالَ (سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) .
وفي لفظ (فإذا فرغ من وتره )
كما عند أبي داود والنسائي وغيرهما .
والله تعالى أعلم .